خلال العقود الماضية، كانت الوظيفة العمومية تُعتبر “الحلم الآمن” للجزائريين. الاستقرار، الدخل الثابت، الراتب المنتظم، والهيبة الاجتماعية كلها عناصر جعلت الالتحاق بالمؤسسات الحكومية خيارًا شبه بديهي للطبقة المتوسطة الصاعدة. لكن السنوات الأخيرة بدأت تكشف تغيّرًا واضحًا في نظرة الناس لهذا المسار، كما لو أن البريق القديم بدأ يبهت، أو على الأقل لم يعد يلمع كما كان.
المفارقة أن التغيير لم يأتِ دفعة واحدة، بل تدرّج مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلاد. اليوم، أمام كل هذا الحراك في سوق الشغل، نشهد تحوّلًا هادئًا، لكنه عميق: الجزائري الذي كان يبحث بالأمس عن مقعد دائم في وظيفة عمومية، أصبح اليوم يفكر في بدائل مهنية جديدة، بعضها لم يكن موجودًا قبل سنوات، وبعضها الآخر لم يكن يُؤخذ على محمل الجد.
أول ما تغيّر هو مفهوم “الأمان”. فالاستقرار الوظيفي في القطاع العام لم يعد كافيًا لتعويض ضعف الأجور أو محدودية الترقية أو غياب البيئة التحفيزية. الجيل الجديد، الذي تربى على الإنترنت والتكنولوجيا والفرص السريعة، ينظر إلى الوظيفة العمومية كإطار جامد، لا يتحرك إلا ببطء، ولا يتطور إلا بصعوبة. كثيرون بدأوا يشعرون بأن هذا المسار لا يسمح لهم ببناء مستقبل يتماشى مع طموحاتهم.
من جهة أخرى، بدأت قطاعات جديدة تُغري الشباب بوعود مختلفة: حرية أكبر، دخل مرن، وإبداع مفتوح. ريادة الأعمال، العمل الحر، الشركات الناشئة، التجارة الإلكترونية، وحتى الوظائف المرتبطة بالإعلام الرقمي، كلها مسارات فتحت أبوابًا لم تكن مطروقة من قبل. ومع تدهور القدرة الشرائية، أصبح الجزائري يبحث عن موارد إضافية، شيء لا توفره الوظيفة العمومية في أغلب الأحيان.
ورغم ذلك، لا يمكن القول إن الوظيفة العمومية فقدت قيمتها بشكل كامل. لا تزال تمثل ملاذًا للكثيرين، خصوصًا للعائلات التي تبحث عن “الطمأنينة” قبل كل شيء. كما أنها تظل جزءًا حساسًا من البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة. لكن ما هو مؤكد أن موقعها في ذهن المواطن تغيّر. أصبحت خيارًا من بين خيارات، وليست الخيار الوحيد. وأصبح الانضمام إليها قرارًا مرتبطًا أكثر بالظروف الشخصية، وليس بطموح اجتماعي عام.
ربما يمكن القول إن المجتمع الجزائري يعيش اليوم مرحلة انتقالية جديدة، تعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والعمل. إنها ليست أزمة وظيفة، بل تحوّل نظرة. ومع مرور الوقت، سيجد الجزائري لنفسه مكانًا في سوق شغل أكثر تنوعًا، أكثر تنافسية، وأكثر انسجامًا مع الواقع الجديد للعالم والاقتصاد.
هذه القراءة لا تُدين الوظيفة العمومية، ولا تمجّد الخيارات الأخرى، بل تضع الأمور في سياقها الطبيعي: عالم يتغير، مجتمع يتحرك، وتوازنات جديدة تتشكل بهدوء. والاختيار في النهاية يبقى دائمًا ابن زمانه.