عندما نتحدث اليوم عن الذكاء الاصطناعي في الإدارة العمومية بالجزائر، فنحن لا نتحدث عن فكرة مستقبلية بعيدة، بل عن مسار بدأ يفرض نفسه تدريجيًا في مختلف القطاعات. الكل يلاحظ أن البلاد دخلت مرحلة جديدة، عنوانها الرقمنة ومحاولة تحديث مؤسسات الدولة. لكن، بين الطموح الذي نسمعه في الخطابات وبين الواقع الذي نعيشه في الإدارات يوميًا، تبقى المسافة واضحة.
فعلى الرغم من بعض التطور الذي لمسناه في السنوات الأخيرة، سواء في رقمنة الوثائق أو إطلاق منصات إلكترونية تساعد المواطن على تجنّب الطوابير، إلا أن الصورة العامة ما تزال غير مكتملة. الكثير من الخدمات تعمل بنصف طاقتها، وبعض الإدارات تُصرّ على الجمع بين الورقي والرقمي في نفس الوقت، وهو ما يجعل أي خطوة نحو الذكاء الاصطناعي تبدو كأنها “معلّقة” في انتظار بيئة أفضل.
الذكاء الاصطناعي، في النهاية، يعتمد على شيء أساسي: البيانات.
وللأسف، ما تزال البيانات في مؤسساتنا موزعة، غير موحّدة، وأحيانًا غير محدثة أصلًا. جزء منها بقي في الأرشيف الورقي، وجزء آخر رقمي لكنه غير مكتمل أو غير متوافق مع أنظمة أخرى. هذا الواقع يعطّل أي محاولة حقيقية لبناء إدارة تعتمد على التحليل الذكي أو اتخاذ القرار السريع بناءً على بيانات دقيقة.
ومع كل هذا، يظلّ العامل البشري أهم عنصر في المعادلة. فالموظف الذي يعمل منذ سنوات وفق نمط إداري تقليدي يجد صعوبة في التأقلم مع أنظمة جديدة تغيّر طريقة عمله. بعضهم يتخوف من فقدان دوره أو تأثير مكانته، وبعضهم يرى التحول مجرد “عبء تقني” جديد. لذلك، نجاح الذكاء الاصطناعي لا يمر فقط عبر التكنولوجيا، بل عبر تغيير الثقافة داخل الإدارات نفسها، وتحضير الناس نفسياً ومهنياً لهذه المرحلة.
وفي الجهة المقابلة، يبرز سؤال الأمن السيبراني. فكلما توسعت الرقمنة، كلما زادت المخاطر. ومع أن الجزائر قطعت خطوات محترمة في هذا المجال، إلا أن الحاجة ملحّة لنظام موحّد وقوي قادر على حماية البيانات الحكومية التي أصبحت هدفًا للهجمات الإلكترونية حول العالم. من دون حماية حقيقية، سيبقى القلق موجودًا، سواء لدى المؤسسات أو المواطنين.
أما المواطن الجزائري، فهو اليوم أكثر استعمالًا للتكنولوجيا من أي وقت مضى، لكنه لا يزال مترددًا في التعامل مع الخدمات الإدارية الرقمية. جزء من هذا التردد مرتبط بقلة الثقة، والجزء الآخر بضعف جودة بعض الخدمات الرقمية نفسها. لذلك، نجاح أي مشروع قائم على الذكاء الاصطناعي يتطلب تحسين التجربة الرقمية للمواطن حتى يشعر أن التكنولوجيا فعلاً جاءت لتسهّل عليه الحياة، لا لتضيف تعقيدًا جديدًا.
باختصار
الجزائر اليوم أمام مرحلة جديدة ومهمة. الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا، وليس مجرد عنوان جميل في البرامج الحكومية. إنه ضرورة، لكنه يحتاج إلى قاعدة حقيقية: بيانات موحدة، موظفين مؤهلين، حماية قوية، ورؤية واضحة لا ترتكز على الوعود بل على التنفيذ الفعلي.
إذا تمكّنا من تنظيم هذا الأساس، يمكن للجزائر بكل ثقة أن تتقدم نحو إدارة ذكية وأكثر فعالية، إدارة تليق بطموحات المجتمع وتلبي حاجات المواطن.